المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [ليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً] لأن التأويل له معانٍ: منها حق ومنها باطل [ولا ترك شيء من الظواهر لبعض النَّاس لدليل راجح من الكتاب والسنة، وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف التي يدل الكتاب والسنة عَلَى فسادها؛ وترك القول عَلَى الله بلا علم] ففي نفي شيء أثبته الله لنفسه، أو إثبات شيء لم يثبته الله لنفسه قول عَلَى الله تَعَالَى بغير علم، وكفى بذلك إثماً مبينا.
  1. بعض التأويلات الفاسدة

    يقول: [فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدلة الرؤية] فأولوا قوله تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23] قالوا: ناظرة اسم فعل من الانتظار فهي ناظرة أي: تنتظر رحمة الله، قوله: [وأدلة العلو] مثل: تحريف الاستواء بالاستيلاء [وأنه لم يكلم موسى تكليما]، أولوا آيات التكليم، فَقَالُوا: الكلام ينسب إِلَى الشجرة، لأنه - تَعَالَى - قَالَ: (مِنَ الشَّجَرَةِ) فالشجرة: هي التي تكلمت.
    ولهذا قال كثير من السلف الصالح وهذا مروي عند الأئمة بالأسانيد، كما في كتاب السنة لـعبد الله بن الإمام أحمد والشريعة للآجرى والإبانة لـابن بطة وغيرهم أن من يقول: "إنني أنا الله لا إله إلا أنا" وهو مخلوق فقد كفر، وقالوا في قوله تعالى: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)) [النساء:164] قالوا: نجعل موسى هو المتكلم والله هو المتكلَم معه، فقيل لهم: ما تقولون في قوله: ((وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ))[الأعراف:143] فحرفوا معنى الكلام في "كلَّمه" وَقَالُوا: هو من التكليم الذي هو التجريح؛ لأن الكَلْم هو الجرح، فإذا قلنا: رجل مكلوم أي: مجروح.
    ثُمَّ يقولون: [وهذا هو المعنى الحق، والذي يعتقد خلاف ذلك، فهو حشوي مشبه مجسم إِلَى آخره] كما يقول الكوثري وتلاميذه، ولهم كتب كثيرة ورائجة تدرس في أكثر جامعات العالم الإسلامي، أمثال هذه التأويلات عافانا الله منها.
    ويقولون: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، وأنكروا المحبة، وَقَالُوا: إن الله لا يُحِب ولا يُحَب
    ولهذا لما قتل خالد بن عبد الله القسري رَحِمَهُ اللَّهُ الجعد بن درهم كان هذا من أجل هذه البدعة، وإن كَانَ هناك من يقول: إنما قتله لقضية سياسية كانت بينهما.
  2. معنى التأويل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

    يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [ثُمَّ قد صار التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي، فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام] والمآل هو: والعاقبة والنهاية، أي: ينتهي إليها الكلام وتراد بالكلام [فتأويل المخبر به] مثلاً أخبرنا الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن الجنة والنار، فَقَالَ في النار: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)) [مريم:71] فتأويل هذه الآية -على هذا المعنى- أن العالمين جميعاً يردون فوق جسر جهنم هذا تأويلها.
    وتأويل دخول الجنة أن يدخل المؤمنون الجنة.
    وتأويل دخول النَّار أن يدخل الكفار النار.
    وتأويل أخبار الدجال أن يظهر الدجال وتظهر الآيات التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه.
    وتأويل أخبار الدابة أن تظهر الدابة فإذا خرجت قلنا قد وقع تأويل ذلك، فكل ما كَانَ من الأخبار فتأويله هو وقوع نفس المخبر به.
    وتأويل الأمر: نفس الفعل المأمور به.
    فعندما يقول الله تعالى:((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)) [البقرة:43] فتأويلها أن تصلي، فإذا كنت تصلي فأنت تأول هذه الآية بمعنى تأتي بما أمرك الله به وعلى هذا الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أم المؤمنين عَائِِِشَةَ قالت: {كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في ركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن} أي: يتأول قوله تعالى: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)) [النصر:1-3] فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تحقق له ذلك تأول القُرْآن أي: عَلَى لغتنا يطبق ذلك ويتمثله.

    وقال تعالى: ((هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ)) [الأعراف:53] أي: هل ينظرون إلا أن يأتي تأويله: فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث كفار قريش وما أكثر ما يحدثهم بكتاب الله عن قيام الساعة؛ لكنهم ينكرونها ويكذبون بها كما قال تَعَالَى عنهم: ((بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ)) [النمل:66] فلا يؤمنون بأن الساعة ستقوم والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكرر عليهم الآيات والأحاديث في الإيمان بها فماذا ينتظرون بعد ذلك: ((هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ)) أي: وقوع ذلك الشيء، فإذا وقع وجاء سيؤمنون! ((يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ)) فهم ينكرون البعث؛ فإذا نفخ في الصور وبعثر من في القبور، فإنهم حينئذ يقولون: ((قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)) لكن هل ينفع حينئذٍ؟ لا ينفع؛ لأن من صفات المؤمنين الإيمان بالغيب قال تعالى: ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ))[البقرة:3] وأخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن كل إنسان سوف يموت كما قال تَعَالَى: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ))[الأنعام:61] فتنزع روحه الملائكة، إما ملائكة الرحمة، إن كَانَ من أهل النعيم والإيمان، وإما ملائكة العذاب إن كَانَ من الشقاوة والجحيم، هكذا أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنؤمن بذلك ونصدق به، فتأويل هذا وتحققه أنه عندما تأتي الملائكة لقبض الروح لا يزداد المؤمن إيماناً، ولا يؤمن المنافق أو الكافر، وكذلك قوله تعالى: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه)) [يونس:39].
    فقوله: ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ)) أي: القُرْآن هذه العلة الأولى من مناط التكذيب، الثانية: هو ((وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه)) أي: لم يستطيعوا أن يستوعبوه بعقولهم ولا أن يفهموه، فنشاهد في هذه الآية أن الأمر عندهم دائر بين شيئين: أنهم لم يحيطوا بعلمه، وأنهم لمَّا يأتهم تأويله.
  3. الفرق بين الإحاطة بالعلم وبين التأويل

    هناك فرق بين الإحاطة بالشيء علماً وبين أن يأتي تأويله، فكثير من المكذبين الذين يكذبون بآيات الله، كعذاب القبر وغيرها يقولون: هذا شيء ليس معقولاً ((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ))[يونس:39] فهو لم يدرك ذلك بعقله الضعيف، ولم يستوعب هذا الشيء ((وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُه)) أي: أمر لم يقع، ولم يؤمنوا به حتى يقع، هذا هو التفريق بين الإحاطة بالعلم وبين التأويل، ومن هذا نفهم آية آل عمران وهي قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ)) [آل عمران:7] وهذه الآية أشكل تفسيرها عَلَى أكثر المفسرين قديماً وحديثاً.
  4. الكلام على قوله : (( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ))

    إن التفريق بين الإحاطة بالعلم وبين التأويل يعين عَلَى فهم قوله تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) [آل عمران:7] لأن الراسخين في العلم يحيطون بمعاني القُرْآن علماً، ولكن لا يدركون تأويله عَلَى معنى الوقف عَلَى قوله: ((إِلَّا اللَّهُ)) فهذا أحد ما يُخَّرج به ذلك ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)) [آل عمران:7].
    فالراسخون في العلم لا يجهلون معاني كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، كما ورد عن ابن عباس أنه كَانَ يوقفه تلميذه مجاهد عند كل آية ويسأله عن معناها، فلا توجد آية خَفْيَ معناها عَلَى ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- سواء كَانَ هذا التفسير صواباً، أو قد يكون هناك ما هو أولى منه، لكن المقصود أن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- يعلم التأويل، إذاً هذا أحد الأوجه التي نفهم بها الآية ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) [آل عمران:7] فهم يعلمون معاني القُرْآن إذا كانت أخباراً، ولكنهم لا يعلمون تأويله، أي: حقيقته التي يؤول إليها، وأما الأوامر والنواهي فإن تأويلها معروف وذلك بتحقيقها وتطبيقها.
  5. أمثلة لمعنى الـتأويل

    يقول المُصنِّف -رحمه الله تعالى-: [ومنه تأويل الرؤيا وتأويل العمل] أي: تفسيرها الذي ستقع وفقه، فملك مصر رأى ((سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ)) [يوسف:43] فأرادوا تأويلها، فالذين لا علم لهم قالوا: ((أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ))[يوسف:44] لكن الذي أعطاه الله تَعَالَى العلم وعلمه من تأويل الأحاديث، قَالَ: هذه السبع السمان هي السنوات المخصبة التي فيها الخصب والنماء: ((يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ))[يوسف:43] أي: يأتي بعد ذلك سبع سنين فيها جدب وقحط، فيأكل النَّاس ويستهلكوا ما ادخروه في أيام الخصب، فهذا تأويلها وتفسيرها، وكذلك لمَّا رأى يوسف عَلَيْهِ السَّلام الرؤيا، فقَالَ: ((إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)) [يوسف:4] ثُمَّ قَالَ: ((وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ)) [يوسف:100] وقد قيل: إن بين الرؤيا وبين وقوع التأويل أربعون سنة، فتأويلها إذاً تفسيرها أو وقوعها، وتأويل العمل تفسيره، وبيان لماذا وقع بهذه الكيفية أي: بيان الحكمة.
    ومثال آخر قوله تَعَالَى ((حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا)) [الكهف:71] تعجب موسى عَلَيْهِ السَّلام: كيف يحسنون إلينا ويركبوننا في السفينة ثُمَّ نخرقها؟!
    وبعدها ((لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ)) [الكهف:74] فَقَالَ موسى :((أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْس)) [الكهف:74] كأنه يقول: ما ذنب هذا الغلام الصغير حتى تقتلته؟
    وفي الثالثة يذهب موسى والخضر إِلَى قرية من القرى فيستطعموا أهلها فيأبوا أن يضيفوهما، ثُمَّ يجدون فيها جداراً يريد أن ينقض فيقيمه الخضر حتى لا يسقط، فيتعجب موسى من ذلك فيقول: ((لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)) [الكهف:77].
    فما كَانَ من الخضر عَلَيْهِ السَّلام إلا أن قَالَ: ((قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً))[الكهف:78] أي: أنا سأخبرك الآن بالعلة والسر والحكمة في الأفعال التي رأيتها ولم تستطع أن تصبر عليها، ثُمَّ أخذ يبين له: ((أَمَّا السَّفِينَةُ)) فتأويلها العملي ((فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً))[الكهف:79] عن أهلها وبعد أن نزل موسى والخضر عليهما السلام من السفينة، ذهب المساكين بسفينتهم إِلَى الميناء وجاء أعوان ذلك الملك الظالم، فَقَالُوا: نريد هذه السفينة إن كانت تصلح لنا وإلا تركناها؟ فخاف المساكين عَلَى سفينتهم فلما رأى أعوان الظالم الخرق قالوا: هذه مخروقة لو ركب فيها الجند لغرقوا فتركوها، ففرح المساكين وذهبوا وأصلحوا الخرق وسلمت لهم السفينة. إذاً هذا الخرق كَانَ خيراً لهم، لكن موسى عَلَيْهِ السَّلام لا يعلم تأويل ذلك، ولا يعلم الغيب الذي أطلع الله تَعَالَى عليه الخضر ولم يطلع عليه موسى، ولهذا قال له الخضر: أنت عَلَى علم من الله علمك إياه لا أعلمه، وأنا عَلَى علم من الله علمني إياه لا تعلمه.
    وكذلك أولَّ لَهُ سببَ قتله للغلام ((وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً)) [الكهف:80] قال المفسرون: إن هذا الغلام طبع يوم طبع كافراً، فكان جزاؤه أن يُقتل لئلا يفتن أبويه.
    وكذلك الجدار الذي أقامه لم يكن إكراماً لتلك القرية اللئيمة، وإنما كَانَ لحكمة غيبية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى علم وذلك أنه كان: ((لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً)) [الكهف:82] فجدد هذا البناء لكي يبلغا أشدهما ويستخرجا الكنز عندما يكبرا، ويطلعهم عَلَى ذلك الكنز.
    قال في الأخير: ((ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)) [الكهف:82] فكل هذه المعاني التي جاءت في القُرْآن سواءً كَانَ وقوع حقيقة الشيء المخبر به، أو تأويل الرؤيا، أو تأويل العمل، فالمعنى فيها واحد، وهذا هو التأويل الذي جَاءَ في الكتاب والسنة.

    يقول: [فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟]، هذا رد من المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى من فهم أن الإمام أبا جعفر أبا جعفر الطّّحاويّ ينكر التأويل بإطلاق فَيَقُولُ: هو لا ينكر التأويل بإطلاق لكن ينكر التأويل بالمعنى البدعي المحدث.
  6. أمور الغيب لا يعلم تأويلها إلا الله

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [وأما ما كَانَ خبراً كالإخبار عن الله واليوم الآخر فهذا قد لا يعلم تأويله الذي هو حقيقته إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار؛ فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به، أو ما يعرفه قبل ذلك لم يعرف حقيقته التي هي تأويله بمجرد الإخبار وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله] كالحديث عن الجنة والنَّار وعن صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعن صفات بعض المخلوقات كالملائكة كما قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى-: "قد بلغنا -وذلك كما في الحديث الصحيح- أن لجبريل ستمائة جناح، ونحن نعلم أن الطير ماله إلا جناحان فأين يكون الثالث؟" أي: أن العقل لا يستطيع أن يتصور أين يكون الجناح الثالث؟ فكيف يستطيع العقل أن يتصور ستمائة جناح؟ فهذه من الأمور الغيبية التي أخبرنا الله بها ورسوله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك صفات الله، وصفات العالم الغيبي، هذه أمور لا نعلم حقيقتها بمجرد الإخبار، وإلا فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه هم أعلم النَّاس وأفهمهم للقرآن؛ لكنهم لم يعرفوا حقيقة هذه الأمور إلا ما أطلع الله عليه رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الإسراء، فمثلاً: نؤمن بأن الجنة فيها أنهار من عسل ولبن وخمر وماء وفواكه وغير ذلك، وكل ذلك لا نعلم حقيقته، إلا أنَّ هناك لفظاً مشتركاً يدل عَلَى قدر معين من العلم والشوق والرغبة إِلَى هذا الشيء، وإن كنا لا ندري حقيقته الكاملة، فذهب الجنة وزعفرانها وفضتها والحور العين واللؤلؤ والمرجان كل ذلك أسماء إلا أنها تدلنا عَلَى معنى الآخرة حتى قال بعض العلماء: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جعل في الأرض الأنهار والأشجار والنساء الجميلات...، وجعل هذه الأشياء، لكي يستدل العاقل بها عَلَى نعيم الجنة، فعندما تذهب إِلَى بلد من البلدان وترى منظراً لم يكن يخطر عَلَى بالك أن في الدنيا هذا الجمال والأشجار والمياه والفاكهة والخضرة، فتتعظ وتعتبر، فكيف لو رأيت الآخرة؟!.
  7. التأويل الباطني الخبيث

    إن فائدة القول بهذا القدر اللفظي المشترك أنه يعيننا في الرد عَلَى الباطنية الذين أوّلوُا النعيم، وَقَالُوا: هذا ليس له أصل وإنما هو تقريب للأذهان، فينكرون الحقائق، ويقولون: هذا عالم غيب، وأنتم لا تعرفون عنه شيئاً، فنقول لهم: لكننا بناءاً عَلَى ما نعرف من الألفاظ التي أنزلها الله تعالى، ومعرفة أن هذه المعاني مراده، وأن لها مدلولات حقيقية هي فوق ما نتخيل من المعاني، فهذا القدر نرد به عَلَى أمثال هَؤُلاءِ المعطلين الذين عطلوا النصوص جميعاً، ولم يكتفوا بإنكار الصفات؛ بل أنكروا الحشر، وَقَالُوا: حشر روحاني، وأنكروا نعيم الجنة، وَقَالُوا: نعيم روحاني، وأنكروا عذاب النار، فَقَالُوا: عذاب روحاني، إِلَى آخر ما أبطلوا به الكتاب والسنة، فأبطلوا الصلاة والزكاة وصفات الله وأبطلوا الجنة ولم يُبقوا من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- شيئاً.
    فعندما نقول لهم قال الله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ))[البقرة:43] قالوا: الصلوات الخمس هي عَلِيّ وفاطمة والحسن والحسين ومحسن، وقالوا في قوله تعالى: ((وَآتُوا الزَّكَاةَ))أن تدفع المال للإمام المعصوم أو تنفق في كذا، وفي قوله تعالى: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)) [البقرة:183] هو حفظ أسرار الإمام المعصوم، وقوله تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت)) [آل عمران:97] أن تذهب إِلَى الإمام المعصوم، فهذه هي حيلة اليهود والمجوس الذين أسسوا دين الرفض، ثُمَّ دين الباطنية والصوفية الذي هو أوسع من الرافضة، الذي يخرج الإِنسَان من جميع التكاليف ومن جميع التعبدات، فلا يؤمن بكتاب ولا بسنة، ولا بأمر ولا بنهي عافانا الله من ذلك

    فالمقصود من ذلك: أن التأويل الذي هو معرفة حقيقة ما يؤول إليه المخبر عنه في الكتاب والسنة لا يعلمه إلا الله.
    ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه -ثُمَّ وضح ذلك فقال- فما في القُرْآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أو أن يُعلم ما عني بها وإن كَانَ من تأويله ما لا يعلمه إلا الله، فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف].
    إذاً مع قولنا: إن حقائق الأشياء لا يعلمها إلا الله، لكن هل يفهم من هذا أن معانيها لا تعلم؟ فهل نقول: الفاكهة أو الرمان والنخل والحور العين والأبكار واللحم والطير لا يعلم معناها؟ لا، ليس الأمر كذلك، فمعنى استوى نعلمه، ومعنى الجبار نعلمه، والقيوم والعزيز والحكيم كل هذه المعاني نعلم معناها؛ لكن حقائقها وكيفية اتصاف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بها لا نعلمه، فالمهم هو: معرفة أن نفي العلم بتأويل -حقيقة- الشيء لا يعني نفي معرفة المعنى، فلا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا.
  8. لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى

    ولا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي معرفة المعنى هذا أمر مهم جداً، فما في القُرْآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها.
    فـالمفوضة تقول: نَحْنُ لا نثبت أي معنى من هذه المعاني، فإذا قلت له: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طـه:5] يقول: الله أعلم بمراده فلا أنفي ولا أثبت! يقول: لأن الله تَعَالَى يقول :((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) [آل عمران:7]، فنحن نتبع سبيل الراسخين في العلم، فنؤمن بأنها آية في القرآن؛ لكن لا نؤمن بأن لها معنى ولا نفسر هذا المعنى، وهذا مذهب خطير جداً.
    ونتيجةً لجهل أكثر المتكلمين المتأخرين بهذا المعنى وقعوا في الحيرة، والاضطراب فأخذوا بهذا المبدأ، وَقَالُوا: نَحْنُ نفوض، فكانوا مفوضة، ومنهجهم خارج عن منهج السلف الصالح، وباطل كما أن مذهب المؤولة باطل، وهناك طائفة أخرى: لما رأوا أن هَؤُلاءِ أحجموا، وَقَالُوا: لا نثبت أي معنى من المعاني، قالوا: نَحْنُ نعرف هذه المعاني، ونعرف التأويل، ولهذا: أخذوا يؤولون الآيات ويخرجونها وفق قواعد اللغة العربية حسب زعمهم، والواقع أن كلاً منهما مخطئ من جهة، وهذا الذي يجب أن نعلمه في آية آل عمران.
    يقول المصنف: [فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف وسواء كَانَ هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له] أي: إن كَانَ المقصود بكلمة " التأويل" تأويل المعنى فالأمر واضح أن المعنى قد يوافق الظاهر، وقد يخالفه، فالذين يتكلمون في معاني القُرْآن قد يفسرونه بالمعاني التي توافق الظاهر أو تخالفه هذا شيء آخر.
    لكن المقصود: أنهم يفسرون القُرْآن بمعانٍ ولا يفوضون، ويقولون: لا نعلم منه شيئاً، وإن كَانَ المقصود أن هذا التأويل هو وقوع حقيقة الشيء، وقد تكون موافقةً للفظ وقد تكون مخالفة له وهذا الاحتمال قد يرد، وتوضيحاً لهذا نقول: عندما أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صفات الدجال، قد يفهم الإِنسَان من ظاهر هذه الصفات معنى معيناً في الدجال، فإذا ظهر الدجال قد يكون التأويل خلافاً لِمَا كَانَ مفهوماً من ظاهر النص.